نَعَم، الوحدانيّة لله تعالى، والتفرّد له. ولكنّ الحياةَ لا يكونُ وجودُها ومغزاها إلاّ بالثنائيّات التي تكملُ بعضها، وتقوّي دعائمها، ومن ثمّ َ تبعث مجالا حيويّا للتفكير والمحاورة مع الذات والآخر. ولا تكتمل دورة الحياة الباعثة للعمل ذهنيّا وجسديّا، في الحلم وفي الواقع إلاّ بإيجاد حالة من التناغم والتنافر والاقتراب والابتعاد، هذه الثنائيّات مبعثُ الوجود وأسّ الدعائم الإنسانية. فالرّجل صِنْوُ المرأة وكلاهما عنصرالحياة الهام. والسّماء صِنْوُ الأرض وكلاهما فضاء هذا الكون الواسع وعالَمه الذي لم نعرفْ عنه إلاّ القليل.
على هذا نقيس الكثير من الثنائيّات الطبيعيّة التي بوجودها متقاربة أو متنافرةً تتّضِحُ معالم هذا العالم الثريّ والمجهول والمعلوم معا. وينطبق هذا على المحسوس والغيبيُّ، على الجوانب الماديّة والمُعاشة وغيرها، فالإنسان جسدٌ وروح، والطاولة أرجل وقاعدة، والنص شكلٌ ومضمون، والدوائر حجروبشر، والأغنيّة لحن وكلمات، والتيّار الكهربائي سالب وموجب، والماء غازان أوكسيجين وهيدروجين .
الذي يعنيني من هذه الثنائيّات وغيرها تلك التي تُبنى على المفارقات ويُساءُ استخدامها، وتبدر من شخص واحد، حيث ينتقل من ضفّة إلى ضفّة أخرى، ولكلّ ضفّة حكم وفتوى وسلوك وطقوس تتنافى كلّيّا مع الضفّة الأخرى، وكأنّك أمام إنسان من كوكب وعالم آخر. فالإنسان الواعي يُدركُ، ويتفهّمُ ما يُحيطُ به. ولا تراه إلاّ متوازنا ملتزما محسنا التّصرُّفَ في المواقف والأزمات. تراه محتاطا لكلِّ أمر، وتراه محاطا بتجربة ودراية، يحسب حسابا لكلِّ كلمة ولكلّ موقف، يسعى لتجنّب هذه الازدواجيّة التي تسلبه إرادته، وتنفِّر الناسَ منه فيقولون: له أكثرُ من وجه وأكثر من لسان. والحياة موقف كما تعلّمنا ودرسْنا :
قف دون رأيك في الحياةِ محاوراً إنّ الحياةَ مواقفٌ وحوارُ
بالإذن من أمير الشّعراء لأنني تصرّفت بالبيت. وهذا لا يكون إلا من إنسان قرأ الحياة ببصيرته قبل بصره، وتشبّع من مضامينها قبل أشكالها، وأدرك حقيقتها الباطنة قبل الظاهرة. أدركها متفاعلا وليس منفعلا، قرأ للفهمِ وليس للحفظ والامتحان من أجل التعيين.
من هناك تتقاذفني الأسئلة التي لا تنتهي: ما الذي يجعل المعلّم والمدرّس ينقسم إلى قسمين، تراه في المدرسة بشأن ووضعٍ وعطاء وفي المكتب وفي بيت الطالب بشكل مغاير وكأنّه إنسان آخر. وما الذي يدفع الطبيب الذي يملك عيادة ومشفى خاصّا، ويعمل في المشافي الحكوميّة إلى التلوّن والتقلّب
والسلوك والالتزام المتفاوت في الحالتين؟ وفهمكم ياسادتي يختصر الكثير. والقياس على ذلك لاينتهي.
بماذا أفسّر سلوكَ الزوجة التي يطير عقلُها فرحا وسرورا بمجيء أهلها؟ تحتار بما سوف تُعدِّه وتُقدِّمه من طعام وشراب وأطايب وابتسامات وترحيبات، وما الذي يجعلها تتغيّر إلى أقصى حالات التغيُّر مع إعلان قدوم أهل زوجها؟ عندها تستعرض تجهّمها وبخلها بالسلام والترحيب والبحث وتبدو السّاعةُ ساعات طويلةً بوجودهم، والأمر ذاتُه ينطبق على الزوج . إنّها ثنائيّة لا يقبلها الأدب ولا السلوك القويم. ولا أعمّم على المطلق هذه الثنائيّات، بل هناك ما هو موضوعي ومشرق بإنسانيّته.
والأغرب من ذلك الأديب الذي يرفع من شأن أيّةِ مجلّة أو صحيفة أومحرّر لكونه حظي بشرف النّشر فيها، وسرعان ماينقلب على عقبيه إذا لم يجد اسمه أو صورته أو مادته، يُقبل عليك متبرّعا بالذي يذكر ولا يُذكر عن هؤلاء، وينطبق هذا على المسابقات الأدبيّة فمنْ حالفَه الحظُّ يسكب قسطا من التأويلات، ويجدْ مبرّرا للموضوعيّة والحياد والإشادة باللّجان وحيادتها، وتنقلب الطبخة في مسابقة أخرى، وتتغيّر الأدوار لمن فاز مجدّدا ولمن خاب بعد نجاح. هذه الثنائيّات التي نلاحظها ونعايشها عن قرب وعن تجربة مبنيّة على المعايشة، ولا أتبلّى على شخص بعينه. ومثل هذه الثنائيّات ذاك الذي يعتبر الكتابةَ في الصحف والمجلات النفطية عمالةً وطمعا وتكتيكا وبعدا عن المبدأ والموقف، ولكنّه في السّرّ يبعث لها، وسوف يسيل لعابُه لها، لو نشرت له ، ولكنّه لم يحظَ ، ولم يقدرْ على التكتيك من بعد، وهو الذي تكلّم ما تكلّم لعدم وجوده في النشاطات والموسوعات وسرعان ما تغيّرت اللغة والأحكام أمام الملأ. عجبي من هؤلاء الذين أضاعوا مواقفهم ونسوا ما قالوه سابقا. أليست الحياة موقفا وأمانة؟؟
المرء الصادق الحقّ يعيش، ويمشي على خطّ الاستقامة والوضوح. يقيِّمُ، ويُقوِّم كلّ إعوجاج بوعي ومصداقيةٍ تلبس رداءَ الحياء والحياد والحكمة، هذه الثنائيات وأمثالُها اعتاد عليها بعض الناس، وأضحت من مستلزمات سلوكهم وعملهم، وكأنها قاعدة خلقيّة مباحة. بالإقدام عليها فقدْنا الكثير من المصداقية في العمل والحديث والعبادة والإبداع، والمتابعُ الحقُّ يرى ذلك، كم من حديث على المنابر والأمسيّات والصحف انقلب، وتغيّر مع وجود المعطيات الجديدة والمتغيّرة. إنّ الوقوف على الضّفاف والتمعّن وضبط الأحكام، وصدق الممارسة أمورٌ دعا إليها الفلاسفة وعلماءُ الكلام، ورجال العلم والدين، وأصحاب الحكمة. ماذا تقول عن إنسان يغيّر رأيه، ويقلب حديثه على الطاولة الواحدة وفي الوقت الآني؟ ماذا عساك تفعل مع شخص لا يستطيع ربط كلامه، ولا يستطيع الإمساك َبمواقفه؟
إنّنا ننتمي إلى أمّة مؤسَّسةٍ على الثوابت والسلوك الذي لا يفصل بين القول والعمل. ننتمي إلى أمّة لم تبخلْ علينا بالتوجيه، وزرع قيمها ومُثُلها التي رُحنا نفصِّلها على هوانا، وحسب مصالحنا وذواتنا المتضخّمة بالأمراض. ثمّ وقفنا ندّعي الموضوعيّة، لسانُنا شاهدٌ علينا، وأرجلُنا تشهدُ، والآخرون يشهدون على تلوُّننا وتغيُّرنا..
غداً سوف يأتي من يقول لي: مقالتُك جيّدة وواقعيّة، فأهتزّ طربا، وأهزّ برأسي مبديا علامات الزهو والعجب، وبعد قليل يتناهي لي: أنّه في مجلس آخر وفي فترة قريبة كان يقول وعلى طاولة قريبة: هذا كلام لا طعم له، ولا شكلَ له، وماذا يريد أن يقولَ لنا؟ فسرعان ما أنقلب عليه غضبا وثورة حانقة. وبالمقابل سوف أقول: إنّ الصحيفة موضوعيّة ورائعة لأنّها تتجاوب معي بالنشر، وسرعان ما أغيّر رأيي وقولي لأنّها لم تنشر مقالتي الثانيّة ورفضتُها لي.
هي دعوة لمحاسبة النفس، دعوة للمصالحة مع الذات، أوجّهها لنفسي قبل غيري، والآخرون أدرى وأعلم منّي بما أريده لهم، وللكلمة المبدعة.. أمرنا مكشوف، وطبعنا مقروء، والدواء موجود..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق